
كتابات بران | عشر سنوات من اخفاء قحطان.. ذاكرة الجريمة المفتوحة وسؤال العدالة ال…
عشر سنوات من اخفاء قحطان.. ذاكرة الجريمة المفتوحة وسؤال العدالة المؤجلة
الكاتب | توفيق الحميدي
في بلدٍ مزّقته الحروب، وغابت فيه مؤسسات الدولة، ظلّ ملف الإخفاء القسري أحد أعمق جراح اليمن وأكثرها إيلامًا واستعصاءً على الإغلاق. إنها جريمة لا تستهدف الجسد فقط، بل تمزق النسيج الأخلاقي للمجتمع، وتطعن القانون في قلبه، وتُبقي أسر الضحايا في حالة موت معلّق، يفتك كل يوم بالأمل والكرامة.
في قلب هذا الملف، يبرز اسم محمد قحطان لا كحادثة معزولة، بل كعنوان بارز لحجم التوحش السياسي، وكاشف صارخ لعجز العدالة. غيابه منذ 2015 دون أي معلومات عن مصيره، رغم كونه شخصية سياسية مدنية، جعل من قضيته مرآة للواقع الحقوقي في اليمن، ومحكًا أخلاقيًا لمدى إنسانية الفاعلين في المشهد، ولجدّية المجتمع الدولي في الانتصار لقيم الكرامة والحرية.
لكن تذكر قحطان، أو أي ضحية، لا يجب أن يظل فعلاً موسمياً عاطفياً، بل لابد أن يتحول إلى فعل وطني مستمر، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، ويستدعي بناء مشروع عدالة لا يقوم على الانتقام، بل على المساءلة، وجبر الضرر، وحماية الأجيال القادمة من التكرار.
جريمة ممنهجة بلا تقادم
وفقًا للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (2006)، فهذه الجريمة تُرتكب عندما يُحتجز شخص على يد جهة رسمية أو تابعة لها، ثم يُنفى وجوده أو يُخفى مصيره، ويُحرم من حماية القانون. ويُعتبر الإخفاء القسري جريمة ضد الإنسانية إن تم بشكل واسع أو منهجي، كما نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وفي اليمن، لم تكن هذه الجريمة طارئة، بل هي متجذرة في تاريخ الصراع السياسي. من ضحايا انقلابي الناصريين والاشتراكيين ضد نظام صالح، إلى ضحايا صراعات “الرفاق” في جنوب اليمن، مرورًا بضحايا الانفجارات المتتالية في الحروب الأخيرة شمالًا وجنوبًا، حيث استُخدم الإخفاء كأداة قهر وتصفية حسابات سياسية وطائفية.
وغالبًا ما يترافق الإخفاء القسري مع تعذيب نفسي وجسدي بشع، ومعاملة لا إنسانية، وحرمان الضحايا من الرعاية الطبية والحد الأدنى من الكرامة. وقد وصفته الأمم المتحدة في تقاريرها بأنه:
“جريمة مزدوجة، تُرتكب ضد الفرد وضد مجتمعه، وتُضعف ثقة الناس بالمؤسسات، وتُغلق أبواب المصالحة.”
من الدولة القامعة إلى الميليشيات الموازية
مارست الدولة اليمنية بمختلف أجهزتها الأمنية هذه الجريمة خلال العقود الماضية، لكن الحرب الراهنة ضاعفت عدد الضحايا ووسّعت نطاق المجرمين. فبات الإخفاء يُمارس من جهات رسمية، وأخرى متمردة أو مدعومة خارجيًا، تتستر خلف شعارات التحرير أو محاربة الإرهاب أو الحفاظ على السيادة.
الأخطر أن هذه الجرائم تُرتكب في ظل صمت مجتمعي مريب، أو تواطؤ سياسي واضح، وغياب آلية قانونية وطنية فعّالة للتحقيق والمحاسبة، ما كرّس الإفلات من العقاب، وأفرغ القانون من مضمونه.
المجتمع المدني.. ومضة في عتمة النسيان
رغم صعوبة الظروف، حاولت منظمات يمنية كـ”رابطة أمهات المختطفين”، و”مواطنة”، و”سام”، كسر الصمت، من خلال التوثيق، والحملات، ورفع التقارير إلى المحافل الدولية. لكن هذه الجهود ما تزال مشتتة ومحدودة الأثر، وتحتاج إلى دعم سياسي وإعلامي وشعبي حقيقي، وإلى وجود مؤسسة وطنية دائمة تتولى هذا الملف المعقد.
الإصلاح التشريعي والمؤسسي.. أساس العدالة
لمواجهة هذه الجريمة ومنع تكرارها، لا بد من:
1. إنشاء هيئة وطنية مستقلة ودائمة تُعنى بملفات الاعتقال التعسفي، التعذيب، والإخفاء القسري، تملك صلاحيات قانونية للتحقيق، والمحاسبة، وتمثيل الضحايا.
2. إصلاح شامل للتشريعات اليمنية لتجريم الإخفاء القسري صراحةً، ومواءمة القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
3. اعتماد آليات تعويض فعالة، ودعم نفسي ومادي للضحايا وأسرهم.
4. إدماج القضية في المناهج الدراسية، والفن، والإعلام، وتخليد ذكرى الضحايا، كي تبقى الذاكرة حيّة وتتحول إلى ضمير وطني.
الإخفاء القسري… اختبار للضمير الوطني
الإخفاء القسري لا يُمارس فقط كأداة قمع، بل يكشف ما هو أبعد من الجريمة: انهيار الأخلاق، واحتقار الإنسان، واستباحة القانون باسم القوة. ومواجهته ليست ترفًا حقوقيًا، بل ركيزة لأي سلام حقيقي.
دعونا نجعل من ذكرى محمد قحطان، ومن آهات آلاف الضحايا المجهولين، نداءً وطنيًا جامعًا للعدالة، لا لعناوين سياسية مؤقتة. فالدول تُبنى بالذاكرة، والمصالحة تبدأ بكشف الحقيقة، لا بطمسها.
المقال كاملا على الرابط في أول تعليق👇
بران برس
شبكة المسند اليمنية
المسند نيوز
https://barran.press/articles/topic/8636