
كتابات برّان | تشتّت الإيرادات وتراجع البنك المركزي.. الواقع والتداعيات والمقارن…
تشتّت الإيرادات وتراجع البنك المركزي.. الواقع والتداعيات والمقارنات الدولية
الكاتب | د.عبدالوهاب العوج
في أحدث تصريحاته، أطلق محافظ البنك المركزي اليمني، أحمد غالب المعبقي، تحذيرًا صريحًا بشأن تشتّت الموارد المالية للدولة، مؤكدًا أن البنك في عدن لا يستقبل سوى 25% فقط من الإيرادات العامة، بينما تذهب النسبة المتبقية إلى أكثر من 140 جهة إدارية ومؤسسات محلية لا تخضع للرقابة المركزية. هذا الواقع يضع اليمن أمام أزمة مركّبة لا تقتصر على الجوانب المالية فحسب، بل تمس جوهر السيادة المؤسسية للدولة، حيث أصبح القرار المالي موزعًا على كيانات متفرقة، ما أضعف القدرة على توجيه السياسة النقدية والمالية بشكل متماسك.
البنك المركزي في عدن حاول في عام 2024 أن يستعيد موقعه كجهة رقابية عليا عبر حزمة من الإجراءات الجريئة، شملت إصدار القرار رقم 17، الذي ألزم البنوك العاملة في مناطق الحوثيين بنقل مقار عملياتها التقنية والمركزية من صنعاء إلى عدن خلال 60 يومًا، لتصبح تحت إشراف مباشر من البنك المركزي الشرعي. كما تبع ذلك القرار رقم 20، الذي حظر التعامل مع ستة بنوك كبرى تعمل من صنعاء، وفرض رقابة على شبكات التحويل المالي، وأوقف جميع شبكات الحوالات الداخلية المستقلة، وأعلن تدشين شبكة مالية موحدة تُدار من عدن، بهدف إحكام السيطرة على حركة الأموال داخل البلاد.
أضف إلى ذلك إصدار قرارات بمنع تداول الأوراق النقدية القديمة التي تعود إلى ما قبل 2016، وإلزام المواطنين والمؤسسات باستبدالها، كخطوة لحصر الكتلة النقدية داخل المناطق الحكومية، ومكافحة استخدام العملة القديمة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. كما تم حظر التعامل مع المحافظ الإلكترونية وشبكات الصرافة غير المرخصة التي لا تخضع لرقابة البنك المركزي.
غير أن هذه الإجراءات، التي كان يمكن أن تشكّل نقطة تحول حاسمة في مسار إعادة توحيد السياسة النقدية، تعرّضت لضغوط سياسية مكثفة، خاصة من بعض الأطراف الإقليمية والدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة وجهات مانحة، خشية أن يؤدي تنفيذها إلى تفاقم الأزمة الإنسانية أو عرقلة التحويلات. هذه الضغوط أسفرت عن تراجع الحكومة اليمنية عن قرارات البنك، وتأجيل تنفيذها أو تجميدها كليًا، مما أعاد المشهد إلى نقطة الصفر.
هذا التراجع ترك آثارًا كارثية على الاقتصاد الوطني، أبرزها تقويض سلطة البنك المركزي كمؤسسة سيادية، وفقدان ثقة المؤسسات الدولية به، خصوصًا في ظل استمرار الانقسام النقدي بين مناطق الحكومة والحوثيين. كما أدى إلى انتعاش السوق السوداء والمضاربة في العملات، خاصة في ظل غياب الرقابة الفعلية على حركة الأموال. وانخفضت قيمة الريال اليمني في المناطق المحررة بشكل متسارع، متأثرًا بالانهيار المستمر في حجم الاحتياطيات، في وقت بقيت العملة مستقرة نسبيًا في مناطق الحوثيين التي فرضت التعامل بعملتها الخاصة ومنعت تداول العملة الجديدة القادمة من عدن.
وكان لانقطاع المورد الرئيسي للعملة الأجنبية، نتيجة توقف تصدير النفط والغاز اليمني، أثر بالغ في تسارع التدهور المالي. فالبنك المركزي، في غياب هذه الموارد، بات عاجزًا عن تغطية نفقاته أو دعم سعر الصرف، كما توقفت مزادات بيع العملة التي كانت إحدى الأدوات النقدية القليلة المتاحة للسيطرة على السوق.
هذا المشهد المعقّد، يجعل من الضروري العودة إلى قراءة تجارب دولية مماثلة، لمحاولة استخلاص العِبر والدروس المناسبة للحالة اليمنية.
في السودان، بعد انفصال الجنوب عام 2011، لجأ كل طرف إلى طباعة عملته الخاصة دون تنسيق سياسي أو نقدي، مما تسبب في تضخم واسع النطاق في الدولتين، وانخفاض حاد في القيمة الشرائية للعملة، وهو ما يشبه حالة الانقسام النقدي اليمني، لكن مع فارق أن السودان كان يعيش حالة انفصال سياسي رسمي، بينما اليمن يعيش انقسامًا فعليًا دون اعتراف دولي به.
في ليبيا، انقسم البنك المركزي إلى فرعين، أحدهما في طرابلس والآخر في البيضاء، وكل فرع طبع عملته الخاصة وأدار السياسة النقدية منفردًا. النتيجة كانت فوضى مالية، وتعدد في أسعار الصرف، وفقدان الثقة بالمصارف، وانهيار المنظومة النقدية. وهذا ما يوازي بدرجة كبيرة ما يحدث في اليمن من حيث الانقسام النقدي والشلل المؤسسي.
في سوريا، تحوّلت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى استخدام العملات الأجنبية، خصوصًا الدولار والليرة التركية. وفقد البنك المركزي في دمشق فعاليته في تلك المناطق، مما أفرز تعددية نقدية، وازدهرت السوق السوداء.
تكملة المقال عبر الرابط في أول تعليق👇
بران برس
شبكة المسند اليمنية
المسند نيوز
https://barran.press/articles/topic/10480